بقعة ضوء

مستقبل ملغي، ماضٍ لا نهاية له

الخيال التأملي في السينما العربية وأوضاع (مابعد)الاستعمار

اختزال الاستعمار في منطقة شمال أفريقيا وجنوب غرب آسيا باعتباره مجرد سلسلة من الأحداث التاريخية مألوفة التسلسل، احتلال، مقاومة، تحرير، ثم خاتمة حول بقايا الماضي الاستعماري التي ربما تلاشت مع مرور الوقت، هو تبسيط مفرط لتعقيداته. فالاستعمار في المنطقة ليس ماضيًا نتذكره بينما تراودنا مشاعر الفقدان والفخر باستعادة الوطن. بل هو حاضر متخفٍ في صورة الماضي، مستقبل ملغي ينتظر أن تتم استعادته وتحويله إلى آخر قابل للعيش. وكما لاحظت عالمة الأنثروبولوجيا والمؤرخة آن لورا ستولر، “فإن التبعات الاستعمارية ليس لها حياة خاصة بها. إنها تلتف حول المشاكل المعاصرة التفافًا وثيقًا، حتى وإن فقدت حضورها المرئي والمحدَّد في المفردات والمفاهيم المعاصرة”. من هذا المنطلق، وبالنظر إلى التشابك المعقّد بين الماضي الاستعماري والحاضر الذي خلّفه، تبدو محاولة فكّ الارتباط بالاستعمار عن أنماط الحياة المعاصرة في المنطقة، وعن البُنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها، مسألةً يصعب تحقّقها دون نقد هذه الأنماط ذاتها، ودون مساءلة الذات: كيف كان لوجودنا أن يكون؟ ولحاضرنا أن يبدو لو لم يكن ما كان؟

يقدّم برنامج “بقعة ضوء” في الدورة السادسة عشرة لمهرجان الفيلم العربي برلين مجموعة مختارة من الأفلام، حديثة الإنتاج في معظمها، والتي وإن اختلفت أساليبها وسياقاتها، تطرح بطريقة ما السؤال ذاته عن الوجود الممكن، وعن حاضرٍ لم يستطع أن يكون. تستعرض هذه الأفلام المعضلات والأزمات التي تعيشها المنطقة وسكّانها، إمّا من خلال أساليب الخيال التأملي وبناء عوالم سردية سحرية، أو عبر مقاربات أرشيفية تهدف إلى إرباك ممارسات الأرشفة ذاتها، والكشف عمّا هو مخفٍ وغير مروٍ في السرديات والصور السائدة. تدعونا أفلام هذا البرنامج إلى التأمل والتفاعل النقدي مع الاستعمار وإرثه، من منظور مختلف. وهي تفعل ذلك ليس فقط من خلال تصوير الأوضاع التي خلّفها الوجود الاستعماري أو تسبب في تفشيها – مثل الاستغلال، والتشريد، وغياب العدالة، والأنظمة القمعية، والعنف العرقي والعنصري – بل أيضًا عبر تقويض ما رسّخه الاستعمار في أذهاننا باعتباره حقًا حتميًا أو طبيعيًا لا مفرّ منه.

في فيلم “العواصف الصامتة” (2024)، تُصوّر المخرجة الفرنسية الجزائرية دانيا ريموند غبارًا أصفر غامضًا يتصاعد من سهل ريفي، شهد أحداث دامية في زمن الاستعمار الفرنسي ثم فيما تلاه من حرب أهلية. في بلد لم يحدد الفيلم هويته، وإن كان يشبه الجزائر إلى حد كبير. سيتحول الغبار إلى عواصف رملية عاتية تجتاح البلاد، مُنذرةً بكارثة طبيعية. في هذه الأثناء، يعود الموتى – أو يرفضون الرحيل – مُوقظين/ات أشباح ماضٍ عنيف لم يتم البوح عن فظائعه بعد. هل يُمكن للحاضر أن يتصالح مع الماضي؟ هل يُمكن للأحياء أن يحتملوا حياةً تُطاردها أشباح العائدين/ات من الموت؟

على نحو مماثل، يظهر ثلاثة أشباح في بلدة تونسية نائية في فيلم “أغورا” للمخرج علاء الدين سليم (2024). عودتهم الغريبة – أو بالأحرى، مناعتهم للموت النهائي والمؤكد – تُقلق السكان وعائلاتهم/ن والسلطات. يبدو أن الحيوانات وحدها هي من تُدرك جوهر ما يحدث. يبدو أن الغموض المُحيط بوجودهم/ن، باعتبارهم/ن ليسوا أحياءً حقًا ولا أمواتًا – بمثابة مجاز سياسي حول حاضر تونس المُعلّق في ماضيه الاستعماري وصدمات توابعه. في فيلم “معطر بالنعناع” (2024)، وهو أول فيلم روائي طويل للمخرج المصري محمد حمدي، نجوب عالمًا سرياليًا من الظلال والأضرحة، نشهد كيف يبعث الموتى بأجساد ينبت عليها النعناع، يسكن ندوبها القديمة، يسودها حتى يأكلها. لا يتضح أبدًا ما إذا كان ما نراه هو الآخرة، أو هلوسات مسطول بفعل الحشيش، أو رؤية لعالم الأحياء حين يهلكه الخوف. خيط رئيسي يمكننا الاستدلال منه على الواقع الذي يشير إليه الفيلم في خجل: محنة المصريين/ات المعاصرة بعد الثورة المهزومة، تحت وطأة الخوف وقبضة نظام قمعي باقٍ على سلطانه حتى لو استبدلت وجوهه.

في فيلم “أنميليا” (2023)، وهو أول فيلم روائي طويل للمخرجة الفرنسية المغربية صوفيا علوي، تنتظر أميمة، بطلة الفيلم، ولادة طفلها في عالمٍ هو نفسه على أعتاب ميلاد جديد، عالمٌ يترابط فيه البشر وغير البشر، وتستعيد الطبيعة سيطرتها من خلال استحضار ما وراء الطبيعة. هنا، يبدو ما بعد الاستعماري مُستعدًا لتجاوز استعماريته، بينما يبرز ما بعد الإنساني إلى الواجهة. في فيلم “لدّ” (2023) لسارة إيما فريدلاند ورامي يونس، تروي المدينة الفلسطينية تاريخها الخاص، بدءًا من حقبة الحكم العثماني، مرورًا بعملية التحديث المزدهرة في أوائل القرن العشرين، وصولًا إلى الاحتلال البريطاني، ثم النكبة، وما تلاها من مجازر وموجات نزوح. تتناوب سردية الفيلم بين تاريخ المدينة وحاضرها، ويتخيل في الوقت نفسه تاريخ مضاد، مُناقض للواقع، كان يمكن أن تعيشه المدينة لو لم يأتي الاستعمار وتحدث النكبة

 أما فيلم ” الفيلم عمل فدائي” (٢٠٢٤) لكمال الجعفري فيسعى أيضًا إلى بناء سردية لفلسطين قبل النكبة وبعدها، ليس بالضرورة من خلال تخيّل ما سبق الاستعمار، كما هو الحال في فيلم “لدّ”، ولكن من خلال تجاوز الصورة الاستعمارية نفسها، ارباك منطقها وتشكيل أرشيف مضاد يُركّز على تقويض – إن لم يكن تخريب – ما أنتجته السلطة من سرديات. استنادًا إلى تجربته مع هذا الفيلم ومشاريعه السابقة، سيحكي كمال الجعفري في نقاش مفتوح وبشكل تفصيلي عن المناهج والأدوات الفنية الناقدة للاستعمار في التعامل مع المواد الأرشيفية

وقائع حقيقية لمستشفى بليدة جوانفيل للأمراض النفسية في القرن الماضي، عندما كان الدكتور فرانز فانون رئيسًا للجناح الخامس بين عامي 1953 و1956″ (2023) هو سيرة تخيلية لعالم النفس والناشط الشهير ضد الاستعمار والعنصرية فرانز فانون (1925-1961). استنادًا إلى مواد أرشيفية وأفلام وثائقية ومقابلات مع معاصرين/ات لفانون، يركز المخرج عبد النور زحزاح على الوقت الذي قضاه فانون كطبيب في مصحة للأمراض النفسية في مدينة البليدة بالجزائر. يسلط الفيلم الضوء على تأثير ما شهده فانون من ممارسات عنيفة على المرضى في تلك الفترة، على نضاله اللاحق ضد العنصرية ومن أجل إنهاء الاستعمار. بالأبيض والأسود وبعنوان طويل غير معهود، يحاكي الفيلم لغة المواد الأرشيفية مع إضفاء لمسة من الخيال عليها في الوقت نفسه تؤكد صداها المعاصر. من زاوية أخرى، يروي فيلم “إخفاء صدّام حسين” للمخرج هلكوت مصطفى التاريخ الشفهي لقصة المطاردة التي شنّتها قوات الاحتلال الأمريكية للقبض على الديكتاتور العراقي السابق، صدام حسين كاشفًا عن السياسات الاستعمارية الجديدة التي مزّقت النسيج الاجتماعي في العراق على مدى عقود.

بالإضافة إلى الإنتاجات الحديثة، يتضمن البرنامج فيلمين، أولهما محاولة لاستخدام المنهج النقدي للاستعمار في تناول السينما الألمانية وتاريخها الحديث، فيما يمثل الثاني عملاً كلاسيكياً يُعد من العلامات البارزة في تاريخ السينما العربية المناهضة للاستعمار. في الفيلم الوثائقي “جنة علي” (2011)، تكشف المخرجة المصرية الألمانية ڤيولا شفيق تفاصيل جانب غير معروف عن واحد من أشهر أفلام المخرج والكاتب الألماني راينر فيرنر فاسبيندر “الخوف يأكل الروح” (1974). تُقدم شفيق روايةً تربك الاعتقاد السائد بريادة الفيلم في معالجة قضايا الهجرة والعنصرية في المانيا بعد الحرب، من خلال ما تكشفه من فصول صادمة ومأساوية في حياة ممثله الرئيسي، الهادي بن سالم، وما يشير إليه ذلك من تفشٍ للعنصرية والاستغلال في المشهد الثقافي اليساري في ألمانيا الغربية.

في فيلم “وقائع سنوات الجمر” (1975)، يصوّر محمد لخضر حمينة ملحمةً تاريخيةً للثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. وهو أول فيلم عربي، والوحيد حتى الآن، الذي يفوز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان. وصف لخضر حمينة عمله بأنه محاولة “لسرد، بكرامة ونبل، الانتفاضة التي أصبحت فيما بعد الثورة الجزائرية […] انتفاضةً ليس فقط ضد المستعمر، بل ضد واقع إنساني عام”

اسكندر عبد الله 

المدير الفني

LYD <br/>لِد

LYD
لِد

> الخميس 24.04.2025 | 21:30 | City Kino Wedding
>> الأحد 27.04.2025 | 19:00 | Wolf Kino
Agora <br/> آغورا

Agora
آغورا

> السبت 26.4.2025 | 21:30 | Wolf Kino
>> الثلاثاء 29.4.2025 | 19:00 | City Kino Wedding