أشباح، مآسي وأحلام ضائعة
المدينة في السينما العربية
الجزائر، القاهرة، بيروت ودمشق، مدن مرّت بتحولات هائلة في القرنين الماضيين. بقدر ما، تعكس تلك التحولات تشابكات والتباسات الحداثة نفسها، من نظم التقسيم والتنسيق استعمارية المنطق والمنهج إلى مخططات صياغة ثقافة عمرانية وطنية في حقبة ما بعد الاستعمار، من محاولات إدماج المدن العربية داخل منظومة رأسمالية دولية تهيمن عليها الأسواق الأوروبية إلى يوتوبيا التصنيع والاشتراكية، انتهاء بالتوجهات النيوليبرالية التي أدت إلى اتساعِ هائل للفجوة الاجتماعية بين سكان المدن وارتفاع معدلات الفقر.
تعرضت المدن العربية للقصف، للاحتلال، عصفت بها الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، أعادت موجات التهجير واللجوء تشكيل أحيائها والتوزيع السكاني فيها، وتنوعت الرؤى حول برامج إعادة الإعمار واختلفت حول أولويات التنظيم الحضري. ارتبطت المدن العربية بالقمع السياسي، انطبعت شوارعها بالخوف من قهر الحكام وفساد الأنظمة وشهدت ساحاتها في الوقت ذاته ثورات مجيدة أسقطت أعتى الطغاة وأعنفهم جبروتاً وانتفاضات غاضبة من أجل الحرية، الكرامة والعدالة الاجتماعية.
صاحبت السينما العربية كل تلك التحولات والأحداث بالسرد والتوثيق، فقدمت شهادات عن مداها، تأثيراتها، بل ومحاولات مقاومتها. ساهمت السينما كذلك بدور حيوي في تعريف وتوصيف خصائص الحداثة المدنية، في تخيل ماضيها ورسم ملامح مستقبلها. كيف ظهرت المدينة العربية في السينما؟ كيف تم توظيف عمرانها، ساحاتها، وطرائق العيش فيها كآليات سردية؟ كيف تعامل السينمائيون والسينمائيات العرب مع تحولات المدينة، مع محاولات تدميرها ومشاريع إعادة إعمارها، مع موجات التهجير وإرث الثورات في الماضي والحاضر؟
تسلط بقعة ضوء مهرجان الفيلم العربي برلين هذا العام على هذه الأسئلة وعلى أخرى مماثلة في برنامج حول تمثلات المدينة في السينما العربية، الكلاسيكية والمعاصرة.
***
منذ سنوات نشأتها في مطلع القرن الماضي، وثّقت السينما المصرية للتحولات والتطورات العمرانية التي شهدتها القاهرة وساهمت سرديتاها وجمالياتها في تأصيل تصورات قومية عن المدينة، أضفت على معالمها وساحاتها وميادينها عبق الأسطورة في المخيلة العامة.
احتفاء السينما المصرية بمظاهر الحداثة ظل متوازياً مع التشكيك في مساراتها والتحذير من مخاطرها وتبعاتها، وتلازمت تمثلاتها على الشاشة مع حس مأساوي بالفقد وضياع الطمأنينة سببه الانسياق لإيقاع زمني حداثي متسارع.
يظهر هذا التلازم في فيلم حياة أو موت للمخرج المصري الكبير كمال الشيخ، إنتاج عام ١٩٥٥. كان هذا الفيلم من أوائل الأفلام العربية التي استلهمت منجزات السينما الواقعية الجديدة في إيطاليا خاصة، حيث صُورت معظم مشاهده الخارجية في شوارع المدينة وميادينها لا في أستوديوهات مجهزة كما جرّت العادة في هذا العصر. يحتفي كمال الشيخ في هذا الفيلم بقاهرة مليونية حديثة، تعج بمظاهر العمران ومنجزات العلم والحضارة المعاصرة وتحفّها المخاطر والشرور في الوقت نفسه، فتظهر المدينة في صورة متاهة هائلة الاتساع، الحياة فيها مراوغة مستمرة لسلطة الزمن وسطوة الموت.
فيلم فجر يوم جديد ليوسف شاهين (إنتاج عام ١٩٦٥) يرصد القاهرة في مرحلة أخرى بعد أن اجتاحتها رياح التغيير الناصري في الستينيات، فيبشر بمستقبل اشتراكي واعد ويتنبأ بنهاية محتومة للنخب البرجوازية والأرستقراطية بالمدينة من خلال قصة حب مستحيلة بين طارق، الطالب الطموح الشاب ونائلة، امرأة غنية في متصف العمر، تعاني الملل وتعيش حياة خالية من المعنى والقيمة. تظن نائلة أن حبها الجديد هو الملاذ والخلاص قبل أن ترى في روح حبيبها الشابة المتقدة دلائل هزيمتها وذبولها. بلغة بصرية ساحرة وكادرات بانورامية، يوظف يوسف شاهين معالم القاهرة الحديثة لتكون مسرحاً لقصة الحب تلك، رقيباً على ميلادها ومنذراً بنهايتها.
اليوتوبيا الناصرية التي آمن بها وروج لها يوسف شاهين – على الأقل في تلك المرحلة من نشاطه الفني – تتحول إلى ديستوبيا أو واقع مرير مقبض في فيلم تامر السعيد آخر أيام المدينة (إنتاج عام ٢٠١٦). خالد، بطل الفيلم، يبقى حبيس لصيرورة من العجز، تفشل معها كل محاولاته في سرد قصة مدينة تبدو وكأنها مستعصية على الصورة، يبقى عالق بين ذكرياته الخاصة وبين المآسي الجمعية التي تتخطى القاهرة وتتشابك مع هموم مدن أخرى مثل بغداد وبيروت في مواجهة أشكال مختلفة من العنف، التعصب والقمع السياسي. يتضمن البرنامج ندوة خاصة ندعو فيها المتخصصين وغير المتخصصين على حد سواء للمشاركة، حيث نستضيف المخرج تامر السعيد للحديث من وحي خبرته في هذا الفيلم عن الخصائص الفنية للتصوير في المدينة.
لسنوات طويلة، جعلت الحرب الأهلية من بيروت مدينة تسكنها الأشباح، مسيجة، مقسمة، مشتتة بين الحياة والموت. بيروت مدينتي (١٩٨٢) لجوسلين صعب يأخذنا إلى سنوات الحرب الأهلية الأولى ويسرد بشاعرية تقطر آلماً من وسط الحطام يوميات الدمار الذي خلفته في المدينة. أما تشويش (٢٠١٧) لفيروز سرحال، وعين المهندس (٢٠٢٢) لنديم مشلاوي فكلاهما يتطرقان، بسبلٍ مختلفة، إلى إرث الحرب الأهلية وأثرها الباقي من خلال استعراض الأزمات العمرانية والمجتمعية المعاصرة التي تشهدها بيروت.
في رائعة المخرج السوري الكبير محمد ملص أحلام المدينة (١٩٨٣) يبدو العنف أمراً لا مفر منه في مواجهة الأعراف الذكورية والقمع السياسي. يأخذنا ملص إلى دمشق في حقبة يسودها الاضطراب السياسي في منتصف سنوات خمسينيات القرن الماضي ويحكي قصة صبي يدعى ديب (باسل الأبيض) في رحلته مع النضوج وفي مواجهة حقائق العيش في مدينة قاسية، تحول حلمه بها إلى كابوس أليم.
دمشق ومدن سورية أخرى كثيرة، شهدت في السنوات الأخيرة أحداثا أشد قسوة وعانت الآمرين من ويلات حربٍ تسببت في موجات غير مسبوقة من الهجرة وفرضت ظلها الثقيل على أبسط تفاصيل الحياة اليومية سواء في الوطن أو في المنفى. في فيلمها الرقيق أحلام دمشق (٢٠٢٢)، تحاول إميلي سرّي استكشاف أبعاد علاقتها بمدينة دمشق التي هاجرت منها عائلتها منذ عقود من خلال حوارات حميمية مع سوريين وسوريات اضطرتهم الحرب إلى مغادرة مدنهم والهجرة إلى كندا. يتساءل الفيلم عن إمكانية استحضار أوطان مفقودة من خلال طقس التذكر واستدعاء ما احتفظت به سجلاتنا الحسية والوجدانية.
يطرح البرنامج أسئلة مماثلة في ندوة خاصة بعنوان المدينة العربية: رؤية من المهجر التي يتناقش فيها ضيوفنا من السينمائيين والسينمائيات حول سبل سرد قصص المدن العربية من المهجر، رغم تباعد المسافات وتعدد المعوقات السياسية والقانونية التي تقف حائلاً أمام تحقيق ذلك.
اللجوء إلى أساليب فنية غير تقليدية لتخيل وطن مستحيل والتعبير عن ثقافة حضرية يقمعها الاحتلال، هو أمر اعتاد عليه السينمائيون الفلسطينيون. في فيلم ميناء الذاكرة (٢٠١٠) يستحضر كمال الجعفري وجوداً فلسطينياً ضائعاً من خلال تصوير يوميات واقع يقاوم من أجل البقاء، خاضعا لوطأة الاحتلال، تهدده باستمرار آليات الزحف النيوليبرالي بالتقلص والاختفاء. أما طرازان وعرب ناصر فيستلهمان في غزة مونامور (٢٠٢٠) قوة الحب في الإبقاء على الأحلام في مدينة صارت يعيش سكانها صراعاً مستمراً من أجل البقاء بسبب الحرب والحصار المتواصل. ليس الفيلم توثيقاً لحقائق مدينة غزة وإنما إعادة خلق أسطورية لها تحاول تخيل إمكانات بديلة للحياة فيها.
الاستعمار وما تبعه من أنظمة فاسدة وأزمات سياسية متتالية تركوا اثاراً عميقة داخل البنية المجتمعية في منطقة المغرب العربي. ربما كانت شرائح النساء وفقراء المدن على الأخص الأكثر معاناة وتعرضاً للتهميش بسبب انتشار البطالة، الاستغلال وأشكال العنف المختلفة، مما دفع الآلاف للسقوط ضحية للأيدولوجيات الإسلامية الراديكالية أو المجازفة بحياتهم/ن من أجل الهجرة.
في فيلم علي زاوا (٢٠٠٠) يستكشف المغربي نبيل عيوش العالم المظلم لأطفال الشوارع في مدينة كازابلانكا من خلال قصة ثلاثة أصدقاء بلا مأوى يعيشون في ظل فقر مدقع وأجواء يسودها العنف والجريمة.
أما تحيا الجزائر (٢٠٠٤) للجزائري نذير مقناش فيرصد رحلة أم وابنتها نحو تحقيق حياة حرة ومستقلة في مدينة يرهقها العنف والتعصب. تحلم الأم باسترجاع مجدها الفني البائد وتحاول الابنة التغلب على همومها العاطفية بفضول طفولي تخوض به مغامرات حب عابرة، بينما تظهر الجزائر في خلفية تلك الأحداث مدينة باحثة عن هويتها، تائهة عن ماضيها، بين مطرقة الإرهاب وسندان الفساد السياسي.
أما الفيلم الذي يَفْتَتح برنامج بقعة ضوء لهذا العام، فهو التونسي أشكال (٢٠٢٢) للمخرج يوسف الشابي الذي يتميز بجمالياته البصرية وخصوصية سردية تجمع بين الواقعية والفانتازيا لتكشف عن أشباح الماضي العائدة للظهور في المدينة بعد أكثر من عقد على اندلاع ثورة حارقة لم تتحقق أهدافها بعد.